سورة الأحزاب - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{ياأيها النبى اتق الله} في ندائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعنوانِ النُّبوةِ تنويهٌ بشأنِه وتنبيهٌ على سموِّ مكانِه، والمرادُ بالتَّقوى المأمورِ به الثباتُ عليهِ والازديادُ منه فإنَّ له باباً واسعاً وعرضاً عريضاً لا يُنال مداهُ {وَلاَ تُطِعِ الكافرين} أي المجاهرينَ بالكُفر {والمنافقين} المُضمرين له أي فيما يعودُ بوهنٍ في الدِّينِ وإعطاء دنيَّةٍ فيما بين المسلمينَ. (رُوي أنَّ أبا سفيانَ بنَ حربٍ وعكرمةَ بنَ أبي جهلٍ وأبا الأعورِ السُّلَمي قدِمُوا عليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في الموادعةِ التي كانتْ بينه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وبينهم، وقامَ معهم عبدُ اللَّهِ بن أبيَ ومعتب بن قُشير والجدُّ بنُ قيسٍ فقالُوا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أرفضْ ذكرَ آلهتِنا، وقل: إنَّها تشفعُ وتنفعُ وندعك وربَّك فشقَّ ذلك على النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمؤمنين وهمُّوا بقتلِهم فنزلتْ) أي اتقِ الله في نقضِ العهدِ ونبذِ الموادعةِ ولا تساعدِ الكافرينَ من أهلِ مكةَ والمنافقينَ من أهلِ المدينةِ فيما طلبُوا إليكَ {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} مُبالغاً في العلمِ والحكمةِ فيعلم جميعَ الأشياءِ من المصالحِ والمفاسدِ فلا يأمرُك إلا بما فيه مصلحةٌ ولا ينهاك إلا عمَّا فيه مفسدةٌ ولا يحكم إلا بما تقتضيهِ الحكمةُ البالغةُ فالجملةُ تعليلٌ للأمرِ والنَّهي مؤكدٌ لوجوبِ الامتثالِ بهما {واتبع} أي في كلِّ ما تأتِي وتذر من أمورِ الدِّينِ {مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبّكَ} من الآياتِ التي من جُملتها هذه الآيةُ الآمرةُ بتقوى الله الناهيةُ عن مساعدةِ الكَفَرةِ والمنافقينَ. والتَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمرِ {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} قيل: الخطابُ للرسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والجمعُ للتَّعظيمِ وقيل: له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وللمؤمنينَ وقيلَ: للغائبينَ بطريقِ الالتفاتِ ولا يخفى بعدُه نعم يجوزُ أنْ يكونَ للكلِّ على ضربٍ من التَّغليبِ، وأياً ما كانَ فالجملةُ تعليلٌ للأمرِ وتأكيدٌ لموجبه، أمَّا على الوجهينِ الأولينِ فبطريقِ الرغيبِ والتَّرهيبِ كأنَّه قيل: إنَّ الله خبيرٌ بما تعملونَه من الامتثالِ وتركه فيرتب على كلَ منهما جزاءَه ثواباً وعقاباً وأمَّا على الوجهِ الأخيرِ فبطريقِ الترغيب فقط كأنَّه قيل: إنَّ الله خبيرٌ بما يعملُه كلا الفريقينِ فيرشدك إلى ما فيهِ صلاحُ حالِك وانتظامُ أمرِك ويُطلعك على ما يعملونَه من المكايدِ والمفاسدِ ويأمُرك بما ينبغِي لك أنْ تعملَه في دفعِها وردِّها فلا بُدَّ من اتباعِ الوحيِ والعملِ بمقتضاه حتماً.


{وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أي فوِّض جميعَ أمرِك إليه {وكفى بالله وَكِيلاً} حافظاً موكُولاً إليه كلُّ الأمورِ.
{مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ} شروعٌ في إلقاءِ الوحيِ الذي أُمر عليه الصَّلاة والسَّلام اتباعِه وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى تمهيداً لما يعقبُه من قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون مِنْهُنَّ أمهاتكم وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} وتنبيهاً على أنَّ كون المُظاهَرِ منها أُمّاً وكون الدَّاعي ابناً أي بمنزلة الأمِّ والابنِ في الآثارِ والأحكامِ المعهودة فيما بينهم في الاستحالةِ بمنزلة اجتماعِ قلبينِ في جوفٍ واحدٍ وقيل: هو ردٌّ لما كانتِ العربُ تزعمُ من أنَّ اللَّبيبَ الأريبَ له قلبانِ ولذلك قيلَ لأبي معمرٍ أو لجميلِ بن أسيدٍ الفهريِّ ذُو القلبينِ أي ما جمعَ الله تعالى قلبينِ في رجلٍ. وذِكرُ الجوفِ لزيادةِ التَّقريرِ كما في قولِه تعالى: {ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور} ولا زوجيَّةَ ولا أمومةَ في امرأةٍ ولا دعوةَ وبنوَّةَ في شخصٍ لكن لا بمعنى نفيِ الجمعِ بين حقيقةِ الزوجيةِ والأمومةِ ونفيِ الجمعِ بين حقيقةِ الدَّعوةِ والبنوّةِ كما في القلبِ ولا بمعنى نفيِ الجمعِ بين أحكامِ الزوجيةِ وأحكامِ الأُمومةِ ونفيِ الجمعِ بين أحكامِ الدَّعوةِ وأحكامِ البنوَّة على الإطلاقِ، بل بمعنى نفيِ الجمعِ بين حقيقةِ الزَّوجيَّةِ وأحكامِ الأُمومةِ ونفيِ الجمعِ بين حقيقةِ الدَّعوةِ وأحكامِ البنوةِ لإبطالِ ما كانُوا عليهِ من إجراءِ أحكامِ الأُمومةِ على المظاهرِ منها وإجراءِ أحكامِ البنوَّةِ على الدَّعيِّ، ومعنى الظِّهارِ أنْ يقولَ لزوجتِه: أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي مأخوذٌ من الظَّهر باعتبارِ اللَّفظ كالتَّلبيةِ من لبيكَ وتعديته بمن لتضمنِه معنى التجنبِ لأنَّه كان طلاقاً في الجاهليةِ وهو في الإسلامِ يقتضِي الطَّلاقَ أو الحُرمةَ إلى أداءِ الكفَّارةِ كما عُدِّي آلَى بها وهو بمعنى حلفَ. وذُكر الظِّهارُ للكنايةِ عن البطنِ الذي هو عمودُه فإنَّ ذِكرَه قريبٌ من ذكرِ الفرجِ أو للتغليظِ في التَّحريمِ فإنَّهم كانُوا يُحرِّمون إتيانَ الزَّوجةِ وظهرُها إلى السَّماءِ. وقرئ: {اللاءِ} وقرئ: {تظاهرونَ} بحذفِ إحدى التَّاءينِ من تتَظَاهرون وتَظّاهرون بإدغامِ التَّاءِ الثَّانيةِ في الظَّاءِ، وتُظْهرون من أظهرَ بمعنى تظَهَّر وتَظْهَرون من ظَهَر بمعنى ظاهَر كعقدَ بمعنى عاقَد، وتَظْهُرون من ظَهر ظُهوراً. وأدعياءُ جمع دَعيَ وهو الذي يُدعى ولداً على الشُّذوذِ لاختصاصِ أَفعِلاء بفعيلٍ بمعنى فاعلٍ كتقيَ وأتقياء كأنَّه شُبِّه به في اللَّفظِ فجُمع جمعَه كقُتلاء وأُسراء.
{ذلكم} إشارةٌ إلى ما يُفهم ممَّا ذُكر من الظِّهارِ والادّعاءِ أو إلى الأخيرِ الذي هو المقصودُ من مساقِ الكلامِ أي دعاءُكم بقولِكم هذا ابني {قَوْلُكُم بأفواهكم} فقط من غيرِ أن يكونَ له مصداقٌ وحقيقةٌ في الأعيانِ فإذن هُو بمعزلٍ من استتباعِ أحكامِ البنوَّةِ كما زعمتُم {والله يَقُولُ الحق} المطابقَ للواقعِ {وَهُوَ يَهْدِى السبيل} أي سبيلَ الحقِّ لا غيرَ فدعُوا أقوالَكم وخُذوا بقوله عزَّ وجلَّ: {ادعوهم لآبَائِهِمْ} أي أنسبُوهم إليهم وخُصُّوهم بهم.
وقولُه تعالى: {هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} تعليلٌ له والضَّميرُ لمصدرِ ادعُوا كما في قولِه تعالى: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} وأقسطُ أفعلُ تفضيلٍ قُصد به الزيادةَ مطلقاً من القسطِ بمعنى العدلِ أي الدُّعاء لآبائِهم بالغٌ في العدلِ والصِّدقِ في حُكمِ الله تعالى وقضائِه {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُم} فتنسبُوهم إليهم {فَإِخوَانُكُمْ} فهم إخوانُكم {فِى الدين ومواليكم} وأولياؤكم فيه أي فادعُوهم بالأخوَّةِ الدِّينيةِ والمولوية {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي إثمٌ {فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أي فيما فعلتمُوه من ذلك مخطئينَ بالسَّهوِ أو النِّسيانِ أو سبقِ اللِّسانِ {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي ولكن الجناحُ فيما تعمَّدت قلوبُكم بعد النَّهي أو ما تعمَّدت قلوبُكم فيه الجناحَ {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} لعفوهِ عن المخطيءِ وحكمُ التبنِّي بقولِه هو ابني إذا كان عبداً لقائلِ العتقِ على كلِّ حالٍ ولا يثبُت نسبُه منه إلاَّ إذا كان مجهولَ النَّسبِ وكان بحيثُ يُولد مثلُه لمثلِ المتبنِّي ولم يُقرَّ قبله بنسبِه من غيرهِ.


{النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي في كلِّ أمرٍ من أمورِ الدِّينِ والدُّنيا كما يشهدُ به الإطلاقُ فيجبُ عليهم أنْ يكونَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أحبَّ إليهم من أنفسِهم وحكمُه أنفذَ عليهم من حكمِها وحقُّه آثرَ لديهم من حقوقِها وشفقتُهم عليه أقدمَ من شفقتِهم عليها. رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أراد غزوةَ تبوكَ فأمرَ الناس بالخُروجِ فقال أنسٌ نستأذنُ آباءَنا وأُمَّهاتِنا فنزلتْ. وقرئ: {وهو أبٌ لهم} أي في الدِّينِ فإنَّ كلَّ نبيَ أبٌ لأمَتهِ من حيثُ إنَّه أصلٌ فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون إخوةً {وأزواجه أمهاتهم} أي منزلات منزلَة الأمَّهاتِ في التَّحريمِ واستحقاقِ التَّعظيمِ، وأما فيما عَدا ذلك فهنَّ كالأجنبياتِ، ولذلك قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: لسنا أُمَّهاتِ النِّساءِ {وَأُوْلُو الارحام} أي ذُوو القراباتِ {بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} في التَّوارث وهو نسخٌ لما كان في صدرِ الإسلامِ من التَّوراث بالهجرةِ والمُوالاة في الدِّينِ {فِى كتاب الله} في اللَّوح أو فيما أنزلَه وهو هذه الآيةُ أو آيةُ المواريثِ أو فيما فرضَ الله تعالى {مِنَ المؤمنين والمهاجرين} بيانٌ لأولي الأرحامِ أو صلةٌ لأُولي أو أولُو الأرحامِ بحقِّ القرابةِ أَولى بالميراثِ من المؤمنينَ بحقِّ الدِّينِ ومن المهاجرينَ بحقِّ الهجرةِ {إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً} استئناءٌ من أعمِّ ما تُقدَّرُ الأولويَّةُ فيهِ من النَّفعِ. والمرادُ بفعلِ المعروفِ التَّوصيةُ أو منقطع {كَانَ ذلك فِى الكتاب مَسْطُورًا} أي كان ما ذُكر من الآيتينِ ثابتاً في اللَّوحِ أو القُرآنِ. وقيل في التَّوراةِ. {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ} أي اذكُر وقتَ أخذنا من النبيينَ كافَّةَ عهودِهم بتبليغِ الرِّسالةِ والدُّعاءِ إلى الدِّينِ الحقِّ {وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} وتخصيصُهم بالذِّكرِ مع اندراجِهم في النبيِّينَ اندراجاً بيناً للإيذانِ بمزيدِ مزيَّتِهم وفضلِهم وكونِهم من مشاهيرِ أربابِ الشَّرائعِ وأساطينِ أولي العزمِ من الرُّسلِ. وتقديمُ نبيِّنا عليهم الصَّلاة والسَّلام لإبانةِ خطرهِ الجليلِ {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً} أي عهداً عظيمَ الشَّأنِ أو مُؤكَّداً باليمينِ، وهذا هو الميثاقُ الأولُ بعينِه وأخذُه هو أخذُه. والعطفُ مبنيٌّ على تنزيلِ التغايرِ العنوانيِّ منزلَة التغايرِ الذَّاتيِّ تفخيماً لشأنِه كما في قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} إثرَ قولِه تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا}

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8